النظر ة العلمیة إلى الماء فی التصور الإسلامی لم تنحصر فی مادته الأولیة للخلق والتکوین، بل تناولته فی جمیع المجالات بصورة تختلف عن تلک التصورات والظنون. فهی أقرب إلى التصور العلمی الرصین الذی یتجنب افتراضات المتفلسفین وغیبیات المیتافیزیقیین ویرفض میثولوجیا الأسطوریین، ویتضمن تحریک الحوافز النفسیة لمواصلة الإنتاج والعطاء عن طریق إحیاء الموات...
النظر ة العلمیة إلى الماء فی التصور الإسلامی لم تنحصر فی مادته الأولیة للخلق والتکوین، بل تناولته فی جمیع المجالات بصورة تختلف عن تلک التصورات والظنون. فهی أقرب إلى التصور العلمی الرصین الذی یتجنب افتراضات المتفلسفین وغیبیات المیتافیزیقیین ویرفض میثولوجیا الأسطوریین، ویتضمن تحریک الحوافز النفسیة لمواصلة الإنتاج والعطاء عن طریق إحیاء الموات.
فی عصر العلم الممتدّ إلى الغد، لم یهتد حتى الآن العلماء إلى رأی نهائی حاسم حول بدء الخلق، وإنما هی افتراضات وظنون انتهت إلیهم جمیعًا من أقوال من سبق، وحسبهم الیوم جمیعًا أن یورثوها من سوف یلحق..
بید أن الباحث الإسلامی الذی لا یأخذ بالظن، ولا یرجم بالغیب، یستخلص بکثیر من الاطمئنان أن الماء هو مادة الحیاة الأولیة، لجمیع الکائنات والأحیاء،کلّما رتل فی القرآن: ) وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء کُلَّ شَیْءٍ حَیٍّ (([1]). بل یوشک، إذا ما فکر فی هذه الآیة ملیًا أن یؤکّد من خلالها ویشهد، أنه ما کان للإنسان أن یولد، ولا لجمهرة الکائنات أن توجد،ولا للحیاة أن تستمر،ولا للحضارة أن تزدهر، لو غاض الماء فما جرى وشح المطر فما انهمر.
ولو تدبرنا القرآن وتلوناه بإمعان، لسحر منا القلوب والألباب، بوصفه المعجز الخلاب،للماء النمیر تموج قطراته وتنساب،ناعمة رخیة، وینبعث منها الخریر بنغماته العذاب، رقراقة ندیة، وإذا روعة التصویر تصاحب دقة التعبیر، وإذا عنصر الماء ینهل بین الأرض والسماء، فینبجس([2]) من الجماد والحجر، وینهمر من السحاب والمطر، ویملأ الغدیر والنهر، ویسقی النجم([3]) والشجر، ویخرج الحب والثمر، ویطلع الورد والزهر، ویحیی الدواب والبشر، وینفع البدو والحضر، وإذا الماء الدافق إکسیر کل الخلائق، وینبوع کل الحقائق.
فی قطرات من هذا الماء بث الله روح الحیاة، من بدء الخلق إلى منتهاه.وإذا کنا لا ندری عن نهایة العالم إلا ما أخبرنا به القرآن وأکده الحدیث المأثور من أشراط الساعة ویوم القیامة والبعث والنشور، لأنه غیب لا یعلمه إلا الله، فنحن أیضًا لا ندری عن بدایة العالم إلا ما أخبرنا به المعصوم وتلقاه من وحی الله،لأننا یوم بدء التکوین لم نکن حاضرین نشأة الأکوان ولا شاهدین خلق الإنسان) مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا کُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّینَ عَضُدًا( ([4]). ومع ذلک حثنا القرآن على سبر الأغوار، وتقصی الأسرار، لنعرف عن طریق البحث والنظر،وطول الرحلة والسفر، وتتبع النقش والأثر، ما نستطیع معرفته عن الصورة التی کان علیها الکون أول مرة: ) قُلْ سِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَانظُرُوا کَیْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ (([5]).
وإذا الماء غامر تلک الصورة الأولى غمرًا نحسبه غیبیًا خالصًا ولا ندرک ما فیه من دقة التعبیر الحسی عن موجود حقیقی قد کان قبل وجود الکون، فی قوله تعالى: ) وَهُوَ الَّذِی خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامٍ وَکَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء(([6]). ولقد سأل الصحابة رسول الله عن هذه الآیة فأجابهم: «کان الله ولم یکن شیء معه،أولم یکن معه شیء غیره، وکان عرشه على الماء» ([7]). ووجد شارح العقیدة الطحاویة أن هذا الحدیث یحتاج إلى التفسیر والإیضاح، فعلق بقوله: «إن فی هذا الحدیث إشارة إلى حاضر موجود مشهود (وهو هذا الکون المرئی)، وقد أجابهم النبی عن هذا العالم الموجود لا عن جنس المخلوقات،وقد أخبرهم عن خلق السماوات والأرض، فظهر أن مقصوده إخباره إیاهم بیده السماوات والأرض وما بینهما، وهی المخلوقات فی ستة أیام، لا ابتداءُ وخلقُ ما خلقه الله قبل ذلک»([8]).
وعنایة القرآن بالماء، وإحاطته بهالة من التمجید، ربما ترتدّان إلى أن عرش الرحمان کان علیه عند بدء الخلق والتکوین. ونحن نکتفی الآن بهذه الملحظة العابرة، ونبادر إلى تسلیط الأضواء على بعض المراحل والأطوار، التی کان النصیب الأوفى خلالها للماء، فی کل مظاهر الإحیاء والإنماء، ومصادر الإنتاج والعطاء.
وإبرازًا لأهمیة الماء، وتأکیدًا لتحقق وجوده قبل خلق السماوات والأرض، قد نستأنس استطرادًا بما نص علیه سفر التکوین فی العهد القدیم من أن الله «فی البدء خلق السماوات والأرض، وکانت الأرض خربة وخالیة، وعلى وجه الغمر ظلام،وروح الله یرف على وجه الماء» ([9])، فیخیل إلینا للوهلة الأولى أن بدء الخلق فی التوراة یشبه بدء الخلق فی القرآن،ویفوتنا حینئذ ما فی التوراة من ثنائیة عنصریة لمادة الخلق الأولیة Dualisme تضمنها التنصیص على مزیج من الماء والظلماء، وننسى فی هذا السیاق أن لفظ «الغمر» أو «العمق» The Deep الوارد فی التوراة یرادف الکلمة البابلیة Tiamat ویذکرنا بأسطورة البالیین والسومریین التی افترضت فی البدایة أیضًا وجود الماء ولکنها افترضت فی الوقت نفسه أن الآلهة الخالقة ظهرت من ذلک الماء،وأن تلک الآلهة کونت الأرض من هذا الماء، وأن «مردوخ» الإله الخالق بزعمهم صنع السماوات والأرض من الدخان الصاعد من ذلک الماء([10]).
والحق أن تصویر القرآن لمادة الخلق الأولیة یختلف عن تلک التصورات والظنون، وأن تعبیره عن قضایا الخلق خال من الأوهام والأساطیر، وأن صیاغته المحکمة الموجزة التی لم تدخل فی الجزئیات ولم تخض فی التفصایل أقرب إلى التصور العلمی الرصین الذی یتجنب افتراضات «المتلفسفین» وغیبیات «المیتافیزیقیین» ویرفض «میثولوجیا» الأسطوریین.
وإن هذا لواضح جدًا فی مواطن کثیرة من القرآن، ولا سیما فی مطلع الآیة الناطقة بأن الماء هو مادة الکائنات الحیة کلها، لأن نص الآیة هو التالی: ) أَوَلَمْ یَرَ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ کَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء کُلَّ شَیْءٍ حَیٍّ( ([11]). ویستنبط من هذا أن الکون فی بدء الخلق کان وحدة متماسکة متصلة تکثرت الموجودات عنها فیما بعد حین انفصل بعضها عن بعض بالتدریج، إذ کانت فی البدایة مرتوقة رتقًا، ثم «انفتق» رتقها واتصالها.
ولعلنا نستنج من هذه «الومضة» القرآنیة المعجزة أن العوالم الکونیة المسماة فی القرآن )العالمین( لم تبلغ کمالها إلا بالتدریج، على رغم تشابه مادتها الأولیة، سواء أکانت«الماء» لکل الأحیاء، أم «الدخان» الذی تصاعد من الماء لجمیع أجرام السماء. ومن الطریف أن شارح العقیدة الطحاویة لما علق على قوله تعالى: )الحمد لله رب العالمین( فی فاتحة الکتاب،توقف عند کلمة «رب» لیلحظ فی معناها مفهوم التربیة، وهی کما قال: »تبلیغ الشیء کماله بالتدریج»([12]).
وعندما صرح القرآن بأن السماء کانت «دخانًا»،وأن الله «استوى إلیها» أی اتجهت إرادته إلى تکوینها وخلقها،فی قوله: ) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِیَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِیَا طَوْعًا أَوْ کَرْهًا قَالَتَا أَتَیْنَا طَائِعِینَ (([13])، استنتجنا أن إفراد السماء أولا یراد به جنسها،على حین أشیر ثانیًا بتعدادها «سبع سماوات إلى الأجرام السماویة کلها، ومنها ما علمنا عنه شیئًا، ومنها ما لم نعلم عنه أی شیء، وقد تکونت برمتها من الدخان ثم بلغت کمالها بالتدریج. ولا ندرک ما فی التعبیر «بالدخان» هنا من قیمة مادیة «محضة» إلا إذا تذکرنا أن من الافتراضات العلمیة التی ما تزال وجیهة «أنه فی أول تاریخ مجرتنا کانت هناک سحابة من غبار ذی ترکیب کونی یشبه السدیم»([14]).
وهذه الصیاغة المادیة لعناصر التکوین الأولیة توشک أن تکون علمیة «بحتة» إذا أصطلحنا اصطلاحًا على «فرزها» وإفرادها عما یخالطها من التعابیر الدینیة «الخالصة». ویرتفع وزنها العلمی ارتفاعًا ملحوظًا إذا تابعنا أبحاث العلماء المعاصرین الذین انتهوا فی هذا المجال «إلى أن الکواکب الابتدائیة قد تحوّلت إلى کواکب عادیة منذ حوالی 5000 ملیون سنة، وأن الفصل الکیمیائی بین أجرام الکواکب قد تمّ منذ 4500 ملیون سنة، وأن القشرة الخارجیة للأرض قد تکوّنت بصورة کاملة منذ 4000 ملیون سنة، وأن أقدم أثر للحیاة قد ظهر على وجه الأرض منذ 3000 ملیون سنة» (